فصل: باب إِثْمِ الْقَاطِعِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب فَضْلِ صِلَةِ الرَّحِمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فضل صلة الرحم‏)‏ بفتح الراء وكسر الحاء المهملة، يطلق على الأقارب وهم من بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أم لا، سواء كان ذا محرم أم لا‏.‏

وقيل‏:‏ هم المحارم فقط، والأول هو المرجح لأن الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام وليس كذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ عُثْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ و حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ الْقَوْمُ مَا لَهُ مَا لَهُ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَبٌ مَا لَهُ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ ذَرْهَا قَالَ كَأَنَّهُ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ

الشرح‏:‏

حديث أبي أيوب الأنصاري ‏"‏ قال قيل‏:‏ يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ‏"‏ أورده من وجهين، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أرب ماله ‏"‏ وفيه ‏"‏ تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الزكاة‏.‏

*3*باب إِثْمِ الْقَاطِعِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إثم القاطع‏)‏ أي قاطع الرحم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ إِنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة قاطع‏)‏ كذا أورده من طريق عقيل‏:‏ وكذا عند مسلم من رواية مالك ومعمر كلهم عن الزهري؛ وقد أخرجه المصنف في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ عن عبد الله بن صالح عن الليث وقال فيه‏:‏ ‏"‏ قاطع رحم ‏"‏ وأخرجه مسلم والترمذي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري كرواية مالك، قال سفيان‏:‏ يعني قاطع رحم‏.‏

وذكر ابن بطال أن بعض أصحاب سفيان رواه عنه كرواية عبد الله بن صالح فأدرج التفسير، وقد ورد بهذا اللفظ من طريق الأعمش عن عطية عن أبي سعيد أخرجه إسماعيل القاضي في ‏"‏ الأحكام ‏"‏ ومن طريق أبي حريز بمهملة وراء ثم زاي بوزن عظيم واسمه عبد الله بن الحسين قاضي سجستان عن أبي بردة عن أبي موسى رفعه ‏"‏ لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مصدق بسحر، ولا قاطع رحم ‏"‏ أخرجه ابن حبان والحاكم‏.‏

ولأبي داود من حديث أبي بكرة رفعه ‏"‏ ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ‏"‏ وللمصنف في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة جمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم ‏"‏ وللطبراني من حديث ابن مسعود ‏"‏ إن أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم ‏"‏ وللمصنف في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من حديث ابن أبي أوفى رفعه ‏"‏ إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع الرحم ‏"‏ وذكر الطيبي أنه يحتمل أن يراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم ولا ينكرون عليه، ويحتمل أن يراد بالرحمة المطر وأنه يحبس عن الناس عموما بشؤم التقاطع‏.‏

*3*باب مَنْ بُسِطَ لَهُ فِي الرِّزْقِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من بسط له في الرزق لصلة الرحم‏)‏ أي لأجل صلة رحمه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏محمد بن معن‏)‏ أي ابن محمد بن معن بن نضلة بنون مفتوحة ومعجمة ساكنة ابن عمرو، ولنضلة جده الأعلى صحبة، وهو قليل الحديث موثق ليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وكذا أبوه لكن له موضع آخر أو موضعان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سعيد هو ابن أبي سعيد‏)‏ المقبري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من سره أن يبسط له في رزقه‏)‏ في حديث أنس ‏"‏ من أحب ‏"‏ وللترمذي وحسنه من وجه آخر عن أبي هريرة ‏"‏ إن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر ‏"‏ وعند أحمد بسند رجاله ثقات عن عائشة مرفوعا ‏"‏ صلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الإعمار ‏"‏ وأخرج عبد الله بن أحمد في ‏"‏ زوائد المسند ‏"‏ والبزار وصححه الحاكم من حديث علي نحو حديثي الباب قال‏:‏ ‏"‏ ويدفع عنه ميتة السوء ‏"‏ ولأبي يعلى من حديث أنس رفعه ‏"‏ إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر، ويدفع بهما ميتة السوء ‏"‏ فجمع الأمرين، لكن سنده ضعيف‏.‏

وأخرج المؤلف في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من حديث ابن عمر بلفظ ‏"‏ من اتقى ربه ووصل رحمه نسئ له في عمره، وثري ماله، وأحبه أهله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وينسأ‏)‏ بضم أوله وسكون النون بعدها مهملة ثم همزة أي يؤخر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في أثره‏)‏ أي في أجله، وسمي الأجل أثرا لأنه يتبع العمر، قال زهير‏:‏ والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر وأصله من أثر مشيه في الأرض، فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر، قال ابن التين‏:‏ ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏)‏ والجمع بينهما من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن هذه الزيادة كناية عن البركة في النمر بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غيره ذلك‏.‏

ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر‏.‏

وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت‏.‏

ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده، والصدقة الجارية عليه، والخلف الصالح‏.‏

وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى‏.‏

ثانيهما‏:‏ أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك مثلا‏:‏ إن عمر فلان مائة مثلا إن وصل رحمه، وستون إن قطعها‏.‏

وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب‏)‏ فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة‏.‏

ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق‏.‏

والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب، فإن الأثر ما يتبع الشيء، فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ الوجه الأول أظهر، وإليه يشير كلام صاحب ‏"‏ الفائق ‏"‏ قال‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى أن الله يبقى أثر واصل الرحم في الدنيا طويلا فلا يضمحل سريعا كما يضمحل أثر قاطع الرحم‏.‏

ولما أنشد أبو تمام قوله في بعض المراثي‏:‏ توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر السفر قال له أبو دلف‏:‏ لم يمت من قيل فيه هذا الشعر‏.‏

ومن هذه المادة قول الخليل عليه السلام ‏(‏واجعل لي لسان صدق في الآخرين‏)‏ وقد ورد في تفسيره وجه ثالث، فأخرج الطبراني في ‏"‏ الصغير ‏"‏ بسند ضعيف عن أبي الدرداء قال‏:‏ ‏"‏ ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصل رحمه أنسيء له في أجله، فقال‏:‏ إنه ليس زيادة في عمره، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏فإذا جاء أجلهم‏)‏ الآية، ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده‏"‏‏.‏

وله في ‏"‏ الكبير ‏"‏ من حديث أبي مشجعة الجهني رفعه ‏"‏ إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر ذرية صالحة ‏"‏ الحديث‏.‏

وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله‏.‏

وقال غيره في أعم من ذلك وفي وجود البركة في رزقه وعلمه ونحو ذلك‏.‏

*3*باب مَنْ وَصَلَ وَصَلَهُ اللَّهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من وصل وصله الله‏)‏ أي من وصل رحمه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ قَالَ سَمِعْتُ عَمِّي سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَهُوَ لَكِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك، ومعاوية هو ابن أبي مزرد بضم الميم وفتح الزاي وتشديد الراء بعدها مهملة، تقدم ضبطه وتسميته في أول الزكاة، ولمعاوية بن أبي مزرد في هذا الباب حديث آخر وهو ثالث أحاديث الباب من طريق عائشة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ‏)‏ تقدم تأويل فرغ في تفسير القتال، قال ابن أبي جمرة‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بالخلق جميع المخلوقات، ويحتمل أن يكون المراد به المكلفين‏.‏

وهذا القول يحتمل أن يكون بعد خلق السماوات والأرض وإبرازها في الوجود، ويحتمل أن يكون بعد خلقها كتبا في اللوح المحفوظ ولم يبرز بعد إلا اللوح والقلم، ويحتمل أن يكون بعد انتهاء خلق أرواح بني آدم عند قوله‏:‏ ‏(‏ألست بربكم‏)‏ لما أخرجهم من صلب آدم عليه السلام مثل الذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قامت الرحم فقالت‏)‏ قال ابن أبي جمرة‏:‏ يحتمل أن يكون بلسان الحال ويحتمل أن يكون بلسان المقال قولان مشهوران، والثاني أرجح‏.‏

وعلى الثاني فهل تتكلم كما هي أو بخلق الله لها عند كلامها حياة وعقلا‏؟‏ قولان أيضا مشهوران، والأول أرجح لصلاحية القدرة العامة لذلك، ولما في الأولين من تخصيص عموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل، ولما يلزم منه من حصر قدرة القادر التي لا يحصرها شيء‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم في تفسير القتال حمل عياض له على المجاز، وأنه من باب ضرب المثل، وقوله أيضا يجوز أن يكون الذي نسب إليه القول ملكا يتكلم على لسان الرحم، وتقدم أيضا ما يتعلق بزيادة في هذا الحديث من وجه آخر عن معاوية بن أبي مزرد وهي قوله‏:‏ ‏"‏ فأخذت بحقو الرحمن ‏"‏ ووقع في حديث ابن عباس عند الطبراني ‏"‏ إن الرحم أخذت بحجزة الرحمن ‏"‏ وحكى شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ أن المراد بالحجزة هنا قائمة العرش، وأيد ذلك بما أخرجه مسلم من حديث عائشة ‏"‏ إن الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش ‏"‏ وتقدم أيضا ما يتعلق بقوله‏:‏ ‏"‏ هذا مقام العائذ بك من القطيعة ‏"‏ في تفسير القتال، ووقع في رواية حبان بن موسى عن ابن المبارك بلفظ ‏"‏ هذا مكان ‏"‏ بدل ‏"‏ مقام ‏"‏ وهو تفسير المراد أخرجه النسائي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أصل من وصلك وأقطع من قطعك‏)‏ في ثاني أحاديث الباب من وجه آخر عن أبي هريرة ‏"‏ من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته ‏"‏ قال ابن أبي جمرة‏:‏ الوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه، وإنما خاطب الناس بما يفهمون، ولما كان أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبة الوصال وهو القرب منه وإسعافه بما يريد ومساعدته على ما يرضيه، وكانت حقيقة ذلك مستحيلة في حق الله تعالى، عرف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده‏.‏

قال‏:‏ وكذا القول في القطع، هو كناية عن حرمان الإحسان‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ وسواء قلنا إنه يعني القول المنسوب إلى الرحم على سبيل المجاز أو الحقيقة أو إنه على جهة التقدير والتمثيل كأن يكون المعنى‏:‏ لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت كذا، ومثله ‏(‏لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا‏)‏ الآية، وفي آخرها ‏(‏وتلك الأمثال نضربها للناس‏)‏ فمقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم، وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجار به فأجاره فأدخله في حمايته، وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من صلى الصبح فهو في ذمة الله، وإن من يطلبه الله بشيء من ذمته يدركه ثم يكبه على وجهه في النار ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَقَالَ اللَّهُ مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال حدثنا عبد الله بن دينار‏)‏ لسليمان في هذا المعنى ثلاثة أحاديث‏:‏ أحدها‏:‏ هذا، والآخر‏:‏ الحديث الذي قبله - وقد سبق من طريقه في تفسير القتال ويأتي في التوحيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الرحم شجنة‏)‏ بكسر المعجمة وسكون الجيم بعدها نون، وجاء بضم أوله وفتحه رواية ولغة‏.‏

وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة، والشجن بالتحريك واحد الشجون وهي طرق الأودية، ومنه قولهم‏:‏ ‏"‏ الحديث ذو شجون ‏"‏ أي يدخل بعضه في بعض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ من الرحمن ‏"‏ أي أخذ اسمها من هذا الاسم كما في حديث عبد الرحمن بن عوف في السنن مرفوعا ‏"‏ أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي ‏"‏ والمعنى أنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها؛ فالقاطع لها منقطع من رحمة الله‏.‏

وقال الإسماعيلي‏:‏ معنى الحديث أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن فلها به علقة، وليس معناه أنها من ذات الله‏.‏

تعالى الله عن ذلك‏.‏

قال القرطبي‏:‏ الرحم التي توصل عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين وتجب مواصلتها بالتوادد والتناصح والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة‏.‏

وأما الرحم الخاصة فتزيد للنفقة على القريب وتفقد أحوالهم والتغافل عن زلاتهم‏.‏

وتتفاوت مراتب استحقاقهم في ذلك كما في الحديث الأول من كتاب الأدب ‏"‏ الأقرب فالأقرب ‏"‏ وقال ابن أبي جمرة‏:‏ تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء‏.‏

والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارا أو فجارا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم، ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال الله‏)‏ زاد الإسماعيلي في روايته ‏"‏ لها ‏"‏ وهذه الفاء عاطفة على شيء محذوف، وأحسن ما يقدر له ما في الحديث الذي قبله ‏"‏ فقالت‏:‏ هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله الخ‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الرَّحِمُ شِجْنَةٌ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ

الشرح‏:‏

حديث عائشة، وهو بلفظ حديث أبي هريرة الذي قبله إلا أنه بلفظ الغيبة‏.‏

وفي الأحاديث الثلاثة تعظيم أمر الرحم، وأن صلتها مندوب مرغب فيه وأن قطعها من الكبائر لورود الوعيد الشديد فيه‏.‏

واستدل به على أن الأسماء توقيفية، وعلى رجحان القول الصائر إلى أن المراد بقوله‏:‏ ‏(‏وعلم آدم الأسماء كلها‏)‏ أسماء جميع الأشياء سواء كانت من الذوات أو من الصفات، والله أعلم‏.‏

*3*باب تُبَلُّ الرَّحِمُ بِبَلَالِهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ هو بالتنوين ‏(‏تبل الرحم ببلالها‏)‏ بضم أوله بالمثناة، ويجوز بفتح أوله بالتحتانية، والمراد المكلف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَاراً غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ إِنَّ آلَ أَبِي قَالَ عَمْرٌو فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بَيَاضٌ لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ زَادَ عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلَاهَا يَعْنِي أَصِلُهَا بِصِلَتِهَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بِبَلَاهَا كَذَا وَقَعَ وَبِبَلَالِهَا أَجْوَدُ وَأَصَحُّ وَبِبَلَاهَا لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهاً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني‏)‏ لغير أبي ذر ‏"‏ حدثنا ‏"‏ وعمرو بن عباس بالموحدة والمهملة هو أبو عثمان الباهلي البصري ويقال له الأهوازي، أصله من إحداهما وسكن الأخرى، وهو من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري، وانفرد به عن الستة‏.‏

وحديث الباب قد حدث به أحمد ويحيى بن معين وغيرهما من شيوخ البخاري عن ابن مهدي، لكن ناسب تخريجه عنه كون صحابيه سميه وهو عمرو بن العاص، ومحمد بن جعفر شيخه هو غندر وهو بصري، ولم أر الحديث المذكور عند أحمد من أصحاب شعبة إلا عنده، إلا ما أخرجه الإسماعيلي من رواية وهب بن حفص عن عبد الملك بن إبراهيم الجعدي عن شعبة، ووهب بن حفص كذبوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن عمرو بن العاص قال‏)‏ عند مسلم عن أحمد وعند الإسماعيلي عن يحيى بن معين كلاهما عن غندر بلفظ ‏"‏ عن عمرو بن العاص ‏"‏ ووقع في رواية بيان بن بشر عن قيس ‏"‏ سمعت عمرو بن العاص ‏"‏ وستأتي الإشارة إليها في الكلام على الطريق المعلقة، وليس لقيس بن أبي حازم في الصحيحين عن عمرو بن العاص غير هذا الحديث، ولعمرو في الصحيحين حديثان آخران حديث ‏"‏ أي الرجال أحب إليك ‏"‏ وقد مضى في المناقب، وحديث ‏"‏ إذا اجتهد الحاكم ‏"‏ وسيأتي في الاعتصام، وله آخر معلق عند البخاري مضى في المبعث النبوي، وآخر مضى في التيمم، وعند مسلم حديث آخر في السحور، وهذا جميع ما له عندهما من الأحاديث المرفوعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهارا‏)‏ يحتمل أن يتعلق بالمفعول أي كان المسموع في حالة الجهر، ويحتمل أن يتعلق بالفاعل أي أقول ذلك جهارا، وقوله‏:‏ ‏"‏ غير سر ‏"‏ تأكيد لذلك لدفع توهم أنه جهر به مرة وأخفاه أخرى، والمراد أنه لم يقل ذلك خفية بل جهر به وأشاعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن آل أبي‏)‏ كذا للأكثر بحذف ما يضاف إلى أداة الكنية، وأثبته المستملي في روايته لكن كنى عنه فقال‏:‏ ‏"‏ آل أبي فلان ‏"‏ وكذا هو في روايتي مسلم والإسماعيلي، وذكر القرطبي أنه وقع في أصل مسلم موضع ‏"‏ فلان ‏"‏ بياض ثم كتب بعض الناس فيه ‏"‏ فلان ‏"‏ على سبيل الإصلاح، وفلان كناية عن اسم علم، ولهذا وقع لبعض رواته ‏"‏ إن آل أبي يعني فلان ‏"‏ ولبعضهم ‏"‏ إن آل أبي فلان ‏"‏ بالجزم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عمرو‏)‏ هو ابن عباس شيخ البخاري فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في كتاب محمد بن جعفر‏)‏ أي غندر شيخ عمرو فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بياض‏)‏ قال عبد الحق في كتاب ‏"‏ الجمع بين الصحيحين ‏"‏‏:‏ إن الصواب في ضبط هذه الكلمة بالرفع، أي وقع في كتاب محمد بن جعفر موضع أبيض يعني بغير كتابة، وفهم منه بعضهم أنه الاسم المكني عنه في الرواية فقرأه بالجر على أنه في كتاب محمد بن جعفر إن آل أبي بياض، وهو فهم سيء ممن فهمه لأنه لا يعرف في العرب قبيلة يقال لها آل أبي بياض، فضلا عن قريش، وسياق الحديث مشعر بأنهم من قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم وهي قريش، بل فيه إشعار بأنهم أخص من ذلك لقوله‏:‏ ‏"‏ إن لهم رحما ‏"‏ وأبعد من حمله على بني بياضة وهم بطن من الأنصار لما فيه من التغيير أو الترخيم على رأي، ولا يناسب السياق أيضا‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ حذفت التسمية لئلا يتأذى بذلك المسلمون من أبنائهم‏.‏

وقال النووي‏:‏ هذه الكناية من بعض الرواة، خشي أن يصرح بالاسم فيترتب عليه مفسدة إما في حق نفسه، وإما في حق غيره، وإما معا‏.‏

وقال عياض‏:‏ إن المكنى عنه هنا هو الحكم بن أبي العاص‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ كذا وقع مبهما في السياق، وحمله بعضهم على بني أمية ولا يستقيم مع قوله آل أبي، فلو كان آل بني لأمكن، ولا يصح تقدير آل أبي العاص لأنهم أخص من بني أمية والعام لا يفسر بالخاص‏.‏

قلت‏:‏ لعل مراد القائل أنه أطلق العام وأراد الخاص، وقد وقع في رواية وهب بن حفص التي أشرت إليها ‏"‏ أن آل بني ‏"‏ لكن وهب لا يعتمد عليه، وجزم الدمياطي في حواشيه بأنه آل أبي العاص بن أمية، ثم قال ابن دقيق العيد‏:‏ إنه رأى في كلام ابن العربي في هذا شيئا يراجع منه‏.‏

قلت‏:‏ قال أبو بكر بن العربي في ‏"‏ سراج المريدين ‏"‏‏:‏ كان في أصل حديث عمرو بن العاص ‏"‏ أن آل أبي طالب ‏"‏ فغير ‏"‏ آل أبي فلان ‏"‏ كذا جزم به، وتعقبه بعض الناس وبالغ في التشنيع ونسبه إلى التحامل على آل أبي طالب، ولم يصب هذا المنكر فإن هذه الرواية التي أشار إليها ابن العربي موجودة في ‏"‏ مستخرج أبي نعيم ‏"‏ من طريق الفضل بن الموفق عن عنبسة بن عبد الواحد بسند البخاري عن بيان بن بشر عن قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص رفعه ‏"‏ إن لبني أبي طالب رحما أبلها ببلاها ‏"‏ وقد أخرجه الإسماعيلي من هذا الوجه أيضا لكن أبهم لفظ طالب، وكأن الحامل لمن أبهم هذا الموضع ظنهم أن ذلك يقتضي نقصا في آل أبي طالب؛ وليس كما توهموه كما سأوضحه إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليسوا بأوليائي‏)‏ كذا للأكثر وفي نسخة من رواية أبي ذر ‏"‏ بأولياء ‏"‏ فنقل ابن التين عن الداودي أن المراد بهذا النفي من لم يسلم منهم، أي فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض، والمنفي على هذا المجموع لا الجميع‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ الولاية المنفية ولاية القرب والاختصاص لا ولاية الدين، ورجح ابن التين الأول وهو الراجح، فإن من جملة آل أبي طالب عليا وجعفر أو هما من أخص الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم لما لهما من السابقة والقدم في الإسلام ونصر الدين، وقد استشكل بعض الناس صحة هذا الحديث لما نسب إلى بعض رواته من النصب وهو الانحراف عن علي وآل بيته، قلت‏:‏ أما قيس بن أبي حازم فقال يعقوب بن شيبة تكلم أصحابنا في قيس فمنهم من رفع قدره وعظمه وجعل الحديث عنه من أصح الأسانيد حتى قال ابن معين‏:‏ هو أوثق من الزهري ومنهم من حمل عليه وقال‏:‏ له أحاديث مناكير، وأجاب من أطراه بأنها غرائب وإفراده لا يقدح فيه‏.‏

ومنهم من حمل عليه في مذهبه وقال‏:‏ كان يحمل على علي ولذلك تجنب الرواية عنه كثير من قدماء الكوفيين، وأجاب من أطراه بأنه كان يقدم عثمان على علي‏.‏

قلت‏:‏ والمعتمد عليه أنه ثقة ثبت مقبول الرواية، وهو من كبار التابعين، سمع من أبي بكر الصديق فمن دونه، وقد روي عنه حديث الباب إسماعيل بن أبي خالد وبيان بن بشر وهما كوفيان ولم ينسبا إلى، النصب، لكن الراوي عن بيان وهو عنبسة بن عبد الواحد أموي قد نسب إلى شيء من النصب، وأما عمرو بن العاص وإن كان بينه وبين علي ما كان فحاشاه أن يتهم، وللحديث محل صحيح لا يستلزم نقصا في مؤمني آل أبي طالب، وهو أن المراد بالنفي المجموع كما تقدم، ويحتمل أن يكون المراد بآل أبي طالب أبو طالب نفسه وهو إطلاق سائغ كقوله في أبي موسى‏:‏ ‏"‏ إنه أوتي مزمارا من مزامير آل داود ‏"‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ آل أبي أوفى ‏"‏ وخصه بالذكر مبالغة في الانتفاء ممن لم يسلم لكونه عمه وشقيق أبيه وكان القيم بأمره ونصره وحمايته، ومع ذلك فلما لم يتابعه على دينه انتفى من موالاته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنما وليي الله وصالح المؤمنين‏)‏ كذا للأكثر بالإفراد وإرادة الجملة، وهو اسم جنس، ووقع في رواية البرقاني ‏"‏ وصالحو المؤمنين ‏"‏ بصيغة الجمع، وقد أجاز بعض المفسرين أن الآية التي في التحريم كانت في الأصل ‏"‏ فإن الله هو مولاه وجبريل وصالحو المؤمنين ‏"‏ لكن حذقت الواو من الخط على وفق النطق، وهو مثل قوله‏:‏ ‏(‏سندع الزبانية‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يوم يدع الداع‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ويمح الله الباطل‏)‏ وقال النووي‏:‏ معنى الحديث أن ولي من كان صالحا وإن بعد مني نسبه، وليس وليي من كان غير صالح وإن قرب مني نسبه‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ فائدة الحديث انقطاع الولاية في الدين بين المسلم والكافر ولو كان قريبا حميما‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ أوجب في هذا الحديث الولاية بالدين ونفاها عن أهل رحمه إن لم يكونوا من أهل دينه، فدل ذلك على أن النسب يحتاج إلى الولاية التي يقع بها الموارثة بين المتناسبين، وأن الأقارب إذا لم يكونوا على دين واحد لم يكن بينهم توارث ولا ولاية، قال‏:‏ ويستفاد من هذا أن الرحم المأمور بصلتها والمتوعد على قطعها هي التي شرع لها ذلك، فأما من أمر بقطعه من أجل الدين فيستثنى من ذلك، ولا يلحق بالوعيد من قطعه لأنه قطع من أمر الله بقطعه، لكن لو وصلوا بما يباح من أمر الدنيا لكان فضلا، كما دعا صلى الله عليه وسلم لقريش بعد أن كانوا كذبوه فدعا عليهم بالقحط ثم استشفعوا به فرق لهم لما سألوه برحمهم فرحمهم ودعا لهم‏.‏

قلت‏:‏ ويتعقب كلامه في موضعين‏:‏ أحدهما‏:‏ يشاركه فيه كلام غيره وهو قصره النفي على من ليس على الدين، وظاهر الحديث أن من كان غير صالح في أعمال الدين دخل في النفي أيضا لتقييده الولاية بقوله‏:‏ ‏"‏ وصالح المؤمنين‏"‏، والثاني‏:‏ أن صلة الرحم الكافر ينبغي تقييدها بما إذا أيس منه رجوعا عن الكفر، أو رجى أن يخرج من صلبه مسلم، كما في الصورة التي استدل بها وهي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لقريش بالخصب وعلل بنحو ذلك، فيحتاج من يترخص في صلة رحمه الكافر أن يقصد إلى شيء من ذلك، وأما من كان على الدين ولكنه مقصر في الأعمال مثلا فلا يشارك الكافر في ذلك‏.‏

وقد وقع في ‏"‏ شرح المشكاة ‏"‏‏:‏ المعنى أني لا أوالي أحدا بالقرابة، وإنما أحب الله تعالى لما له من الحق الواجب على العباد، وأحب صالح المؤمنين لوجه الله تعالى، وأوالي من أوالي بالإيمان والصلاح سواء كان من ذوي رحم أو لا، ولكن أرعى لذوي الرحم حقهم لصلة الرحم، انتهى‏.‏

وهو كلام منقح‏.‏

وقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وصالح المؤمنين‏)‏ على أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ الأنبياء أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن قتادة وأخرجه الطبري، وذكره ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري، وأخرجه النقاش عن العلاء بن زياد‏.‏

الثاني‏:‏ الصحابة أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، ونحوه في تفسير الكلبي قال‏:‏ هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأشباههم ممن ليس بمنافق‏.‏

الثالث‏:‏ خيار المؤمنين أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ أبو بكر وعمر وعثمان أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري‏.‏

الخامس‏:‏ أبو بكر وعمر أخرجه الطبري وابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا وسنده ضعيف، وأخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضا، وكذا هو في تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء بسنده عن ابن عباس موقوفا، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر ضعيف عنه كذلك، قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير وعبد الله بن بريدة ومقاتل بن حيان كذلك‏.‏

السادس‏:‏ أبو بكر خاصة ذكره القرطبي عن المسيب بن شريك‏.‏

السابع‏:‏ عمر خاصة أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير، وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن مجاهد، وأخرجه ابن مردويه بسند واه جدا عن ابن عباس‏.‏

الثامن‏:‏ علي أخرجه ابن أبي حاتم بسند منقطع عن علي نفسه مرفوعا، وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن مجاهد قال‏:‏ هو علي، وأخرجه ابن مردويه بسندين ضعيفين من حديث أسماء بنت عميس مرفوعا قالت‏:‏ ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صالح المؤمنين علي بن أبي طالب ‏"‏ ومن طريق أبي مالك عن ابن عباس مثله موقوفا وفي سنده راو ضعيف، وذكره النقاش عن ابن عباس ومحمد بن علي الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق‏.‏

قلت‏:‏ فإن ثبت هذا فقيه دفع توهم من توهم أن في الحديث المرفوع نقصا من قدر علي رضي الله عنه ويكون المنفي أبا طالب ومن مات من آله كافرا، والمثبت من كان منهم مؤمنا، وخص علي بالذكر لكونه رأسهم، وأشير بلفظ الحديث إلى لفظ الآية المذكورة ونص فيها على علي تنويها بقدره ودفعا لظن من يتوهم عليه في الحديث المذكور غضاضة، ولو تفطن من كنى عن أبي طالب لذلك لاستغنى عما صنع، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وزاد عنبسة بن عبد الواحد‏)‏ أي ابن أمية بن عبد الله بن سعيد بن العاص بن أبي أحيحة بمهملتين مصغرا وهو سعيد بن العاص بن أمية؛ وهو موثوق عندهم، وما له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق، وقد وصله البخاري في كتاب البر والصلة فقال‏:‏ ‏"‏ حدثنا محمد بن عبد الواحد بن عنبسة حدثنا جدي ‏"‏ فذكره وأخرجه الإسماعيلي من رواية نهد بن سليمان عن محمد بن عبد الواحد المذكور وساقه بلفظ ‏"‏ سمعت عمرو بن العاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي جهرا غير سر‏:‏ إن بني أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله والذين آمنوا، ولكن لهم رحم ‏"‏ الحديث وقد قدمت لفظ رواية الفضل بن الموفق عن عنبسة من عند أبي نعيم وأنها أخص من هذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولكن لها رحم أبلها ببلالها، يعني أصلها بصلتها‏)‏ كذا لهم، لكن سقط التفسير من رواية النسفي، ووقع عند أبي ذر بعده ‏"‏ أبلها ببلائها ‏"‏ وبعده في الأصل‏:‏ كذا وقع، وببلالها أجود وأصح‏.‏

وببلاها لا أعرف له وجها، انتهى‏.‏

وأظنه من قوله ‏"‏ كذا وقع الخ ‏"‏ من كلام أبي ذر، وقد وجه الداودي فيما نقله ابن التين هذه الرواية على تقدير ثبوتها بأن المراد ما أوصله إليها من الأذى على تركهم الإسلام، وتعقبه ابن التين بأنه لا يقال في الأذى أبله، ووجهها بعضهم بأن البلاء بالمد يجيء بمعنى المعروف والإنعام، ولما كان الرحم مما يستحق المعروف أضيف إليها ذلك‏.‏

فكأنه قال‏:‏ أصلها بالمعروف اللائق بها‏.‏

والتحقيق أن الرواية إنما هي ‏"‏ ببلالها ‏"‏ مشتق من أبلها، قال النووي‏:‏ ضبطنا قوله‏:‏ ‏"‏ ببلالها ‏"‏ بفتح الموحدة وبكسرها وهما وجهان مشهوران‏.‏

وقال عياض‏:‏ رويناه بالكسر، ورأيته للخطابي بالفتح‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ هو بالفتح للأكثر ولبعضهم بالكسر‏.‏

قلت‏:‏ بالكسر أوجه، فإنه من البلال جمع بلل مثل جمل وجمال، ومن قاله بالفتح بناه على الكسر مثل قطام وحذام‏.‏

والبلال بمعنى البلل وهو النداوة، وأطلق ذلك على الصلة كما أطلق اليبس على القطيعة، لأن النداوة من شأنها تجميع ما يحصل فيها وتأليفه، بخلاف اليبس فمن شأنه التفريق‏.‏

وقال الخطابي وغيره‏:‏ بللت الرحم بلا وبللا وبلالا أي نديتها بالصلة‏.‏

وقد أطلقوا على الإعطاء الندى وقالوا في البخيل ما تندى كفه بخير، فشبهت قطيعة الرحم بالحرارة ووصلها بالماء الذي يطفئ ببرده الحرارة، ومنه الحديث ‏"‏ بلوا أرحامكم ولو بالسلام ‏"‏ وقال الطيبي وغيره‏:‏ شبه الرحم بالأرض التي إذا وقع عليها الماء وسقاها حتى سقيها أزهرت ورؤيت فيها النضارة فأثمرت المحبة والصفاء، وإذا تركت بغير سقي يبست وبطلت منفعتها فلا تثمر إلا البغضاء والجفاء، ومنه قولهم سنة جماد أي لا مطر فيها، وناقة جماد أي لا لبن فيها‏.‏

وجوز الخطابي أن يكون معنى قوله‏:‏ ‏"‏ أبلها ببلالها ‏"‏ في الآخرة أي أشفع لها يوم القيامة‏.‏

وتعقبه الداودي بأن سياق الحديث يؤذن بأن المراد ما يصلهم به في الدنيا، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ لما نزلت ‏(‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏)‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا، فعم وخص - إلى أن قال - يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها ‏"‏ وأصله عند البخاري بدون هذه الزيادة‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ في قوله‏:‏ ‏"‏ ببلالها ‏"‏ مبالغة بديعة وهي مثل قوله‏:‏ ‏(‏إذا زلزلت الأرض زلزالها‏)‏ أي زلزالها الشديد الذي لا شيء فوقه، فالمعنى أبلها بما اشتهر وشاع بحيث لا أترك منه شيئا‏.‏

*3*باب لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ليس الواصل بالمكافئ‏)‏ التعريف فيه للجنس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ وَالْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو وَفِطْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ سُفْيَانُ لَمْ يَرْفَعْهُ الْأَعْمَشُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَهُ حَسَنٌ وَفِطْرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سفيان‏)‏ هو الثوري؛ والحسن بن عمرو الفقيمي بفاء وقاف مصغر، وفطر بكسر الفاء وسكون المهملة ثم راء هو ابن خليفة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن مجاهد‏)‏ أي الثلاثة عن مجاهد، وعبد الله بن عمرو هو ابن العاص، وقوله‏:‏ ‏"‏ قال سفيان ‏"‏ هو الراوي، وهو موصول بهذا الإسناد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ لم يرفعه الأعمش ورفعه حسن وفطر ‏"‏ هذا هو المحفوظ عن الثوري، وأخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان الثوري عن الحسن بن عمرو وحده مرفوعا من رواية مؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن الحسن بن عمرو موقوفا وعن الأعمش مرفوعا، وتابعه أبو قرة موسى بن طارق عن الثوري على رفع رواية الأعمش، وخالفه عبد الرزاق عن الثوري فرفع رواية الحسن بن عمرو وهو المعتمد، ولم يختلفوا في أن رواية فطر بن خليفة مرفوعة‏.‏

وقد أخرجه الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن فطر وبشير بن إسماعيل كلاهما عن مجاهد مرفوعا، وأخرجه أحمد عن جماعة من شيوخه عن فطر مرفوعا وزاد في أول الحديث‏:‏ ‏"‏ إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس الواصل بالمكافئ‏)‏ أي الذي يعطي لغيره نظير ما أعطاه ذلك الغير، وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر موقوفا ‏"‏ ليس الوصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الوصل أن تصل من قطعك‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولكن‏)‏ قال الطيبي الرواية فيه بالتشديد ويجوز التخفيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها‏)‏ أي الذي إذا منع أعطى، و ‏"‏ قطعت ‏"‏ ضبطت في بعض الروايات بضم أوله وكسر ثانيه على الباء للمجهول، وفي أكثرها بفتحتين، قال الطيبي‏:‏ المعنى، ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافئ صاحبه بمثل فعله، ولكنه من يتفضل على صاحبه‏.‏

وقال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ المراد بالواصل في هذا الحديث الكامل، فإن في المكافأة نوع صلة، بخلاف من إذا وصله قريبه لم يكافئه فإن فيه قطعا بإعراضه عن ذلك، وهو من قبيل ‏"‏ ليس الشديد بالصرعة، وليس الغنى عن كثرة العرض ‏"‏ انتهى‏.‏

وأقول‏:‏ لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات‏:‏ واصل ومكافئ وقاطع، فالواصل من يتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل‏.‏

وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك يقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ حينئذ فهو الواصل، فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا، والله أعلم‏.‏

*3*باب مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم‏)‏ أي هل يكون له في ذلك ثواب‏؟‏ وإنما لم يجزم بالحكم لوجود الاختلاف في ذلك‏.‏

وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل كتاب الزكاة، وتقدم البحث في ذلك في كتاب الإيمان في الكلام على حديث أبي سعيد الخدري ‏"‏ إذا أسلم العبد فحسن إسلامه‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أُمُوراً كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ هَلْ لِي فِيهَا مِنْ أَجْرٍ قَالَ حَكِيمٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ وَيُقَالُ أَيْضاً عَنْ أَبِي الْيَمَانِ أَتَحَنَّثُ وَقَالَ مَعْمَرٌ وَصَالِحٌ وَابْنُ الْمُسَافِرِ أَتَحَنَّثُ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ التَّحَنُّثُ التَّبَرُّرُ وَتَابَعَهُمْ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏هل كان لي فيها من أجر‏)‏ ‏؟‏ وهو تفسير رواية يونس بن يزيد عند مسلم ‏"‏ هل لي فيها من شيء ‏"‏‏؟‏ ووقع في رواية صالح بن كيسان ‏"‏ أفيها أجر ‏"‏‏؟‏ وفي رواية ابن مسافر ‏"‏ هل لي فيها من أجر ‏"‏‏؟‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويقال أيضا عن أبي اليمان أتحنت‏)‏ كذا لأبي ذر، ووقع في رواية غيره ‏"‏ وقال أيضا ‏"‏ وعلى هذا فهو من كلام البخاري وفاعل ‏"‏ قال ‏"‏ هو البخاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي اليمان أتحنت‏)‏ يعني بالمثناة بدل المثلثة، يشير إلى ما أورده هو في ‏"‏ باب شراء المملوك من الحربي ‏"‏ في كتاب البيوع عن أبى اليمان بلفظ كنت أتحنت أو أتحنث بالشك، وكأنه سمعه منه بالوجهين؛ وتقدم في كتاب الزكاة ما صوبه عياض من ذلك‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ ‏"‏ أتحنت ‏"‏ بالمثناة لا أعلم له وجها انتهى‏.‏

ووقع عند الإسماعيلي ‏"‏ أتجنب ‏"‏ بجيم وآخره موحدة فقال‏:‏ قال البخاري ‏"‏ يقال أتجنب ‏"‏ قال الإسماعيلي‏:‏ والتجنب تصحيف وإنما هو التحنث مأخوذ من الحنث وهو الإثم، فكأنه قال أتوقى ما يؤثم‏.‏

قلت؛ وبهذا التأويل تقوى رواية ‏"‏ أتجنب ‏"‏ بالجيم والموحدة ويكون التردد في اللفظتين وهما ‏"‏ أتحنث ‏"‏ بمهملة ومثلثة ‏"‏ وأتجنب ‏"‏ بجيم وموحدة والمعنى واحد، وهو توقي ما يوقع في الإثم، لكن ليس المراد توقي الإثم بل أعلى منه وهو تحصيل البر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال معمر وصالح وابن المسافر أتحنث‏)‏ يعني بالمثلثة، أما رواية معمر فوصلها المؤلف في الزكاة، وهي في ‏"‏ باب فمن تصدق في الشرك ثم أسلم ‏"‏ وعزاها المزي في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ للصلاة، ولم أرها فيها، وأما رواية صالح وهو ابن كيسان فأخرجها مسلم، وأما رواية ابن المسافر فكذا وقع هنا بالألف واللام والمشهور فيه بحذفهما، وهو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي المصري أمير مصر، فوصلها الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من طريق الليث بن سعد عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن إسحاق التحنث التبرر‏)‏ هكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة النبوية فقال‏:‏ ‏"‏ حدثني وهب بن كيسان قال‏:‏ سمعت عبد الله بن الزبير يقول لعبيد بن عمير‏:‏ حدثنا كيف كان بدء النبوة‏؟‏ قال فقال عبيد وأنا حاضر‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تتحنث به قريش في الجاهلية، والتحنث التبرر ‏"‏ وقد تقدم التنبيه على ذلك في بدء الوحي في حديث عائشة في هذا المعنى‏:‏ فكان يتحنث، وهو التعبد‏.‏

ومضى التنبيه على ذلك في أول الكتاب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتابعه هشام بن عروة عن أبيه‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وتابعهم ‏"‏ بصيغة الجمع، والأول أرجح فإن المراد بهذه المتابعة خصوص تفسير التحنث بالتبرر، ورواية هشام وصلها المؤلف في العتق من طريق أبي أسامة عنه ولفظه أن حكيم بن حزام قال، فذكر الحديث وفيه ‏"‏ كنت أتحنث بها يعني أتبرر‏"‏‏.‏

*3*باب مَنْ تَرَكَ صَبِيَّةَ غَيْرِهِ حَتَّى تَلْعَبَ بِهِ أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ مَازَحَهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به‏)‏ أي ببعض جسده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو قبلها أو مازحها‏)‏ قال ابن التين‏:‏ ليس في الخبر المذكور في الباب للتقبيل ذكر، فيحتمل أن يكون لما لم ينهها عن مس جسده صار كالتقبيل، وإلى ذلك أشار ابن بطال، والذي يظهر لي أن ذكر المزح بعد التقبيل من العام بعد الخاص؛ وأن الممازحة بالقول والفعل مع الصغيرة إنما يقصد به التأنيس، والتقبيل من جملة ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَهْ سَنَهْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ قَالَتْ فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزَبَرَنِي أَبِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهَا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْلِي وَأَخْلِقِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ يَعْنِي مِنْ بَقَائِهَا

الشرح‏:‏

حديث الباب عن أم خالد بنت خالد بن سعيد تقدم شرحه في ‏"‏ باب الخميصة السوداء ‏"‏ من كتاب اللباس، وعبد الله في هذا السند هو ابن المبارك، وخالد بن سعيد المذكور في السند تقدم بيان نسبه في كتاب الجهاد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزبرني أبي‏)‏ أي نهرني، والزبر بزاي وموحدة ساكنة هو الزجر والمنع وزنه ومعناه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أبلي وأخلقي‏)‏ تقدم ضبطه والاختلاف فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أبلي وأخلقي‏)‏ قال الداودي يستفاد منه مجيء ‏"‏ ثم ‏"‏ للمقارنة، وأبي ذلك بعض النحاة فقالوا لا تأتي إلا للتراخي، كذا قال، وتعقبه ابن التين بأن قال ما علمت أن أحدا قال إن ثم للمقارنة، وإنما هي للترتيب بالمهلة وقال وليس في الحديث ما ادعاه من المقارنة لأن الإبلاء يقع بعد الخلق أو الخلف‏.‏

قلت‏:‏ لعل الداودي أراد بالمقارنة المعاقبة فيتجه كلامه بعض اتجاه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك وهو متصل بالإسناد المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فبقي‏)‏ أي الثوب المذكور، كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية أبي ذر ‏"‏ فبقيت ‏"‏ والمراد أم خالد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى ذكر‏)‏ كذا للأكثر بذال معجمة ثم كاف خفيفة مفتوحتين ثم راء وفيه اكتفاء، والتقدير ذكر الراوي زمنا طويلا‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ المعنى صار شيئا مذكورا عند الناس بخروج بقائه عن العادة‏.‏

قلت‏:‏ وكأنه قرأه ‏"‏ ذكر ‏"‏ بضم أوله لكن لم يقع عندنا في الرواية إلا بالفتح، ووقع في رواية أبي علي بن السكن ‏"‏ حتى ذكر دهرا ‏"‏ وهو يؤيد ما قدمته‏.‏

وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني ‏"‏ حتى دكن ‏"‏ بدال مهملة وكاف مكسورة ثم نون أي صار أدكن أي أسود، قال أهل اللغة، الدكن لون يضرب إلى السواد، وقد دكن الثوب بالكسر يدكن بفتح الكاف وبضمها مع الفتح، وقد جزم جماعة بأن رواية الكشميهني تصحيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يعني من بقائها‏)‏ كذا للأصيلي والضمير للخميصة أو لأم خالد بحسب التوجيهين المتقدمين‏.‏